الهمة السامية طريق للقمم العالية

عدد المساهمات : 60 تاريخ التسجيل : 19/01/2011

السلام عليكم، إخوتي، لأهمية موضوع ومقام الهمة العالية وعظمة شأنها، فإن بصيرة اليوم ستتناولها كذلك،والهمم التي يتقلب فيها الإنسان إخوتي متعددة، فهناك

1/ همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليله وسحابة نهاره في نوم وتراخ وكسل، وهذه أدنى درجات الهمم، وصاحبها عاجز يعتمد على الناس اعتمادًا كليًا، وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنساني، ولله الحمد.

2/ وهناك همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج، والسعي في الأرض، وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيرًا من الأمور، ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده – عند الاستشارة – كثير الصدّ قريب القصد.. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.

3/ ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته، ولكنه لا يعرف سبل استثمارها، ولا كيفية الاستفادة منها، فتجده متذبذبًا في أموره، فتارة ينجز أمورًا عظيمة، وتارة يستصعب الممكن ويستبعده.. والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له ويتطلعون إليه.

4/ ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له.. وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود معروف، يعرفه الناس ويقتدون به، والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أمورًا تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها....

وبصيرتنا قول ربنا في بصيرته وهو يصف أدنى مستوياتها وأعلاها والتي بينهن، إذ قال سبحانه وتعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَينِ أَحَدُهُما أَبكَمُ لا يَقدِرُ عَلىٰ شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَولىٰهُ أَينَما يُوَجِّههُ لا يَأتِ بِخَيرٍ، ۖ هَل يَستَوى هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالعَدلِ ۙ وَهُوَ عَلىٰ صِرٰطٍ مُستَقيمٍ} ..

وأعظم وأعلى وأسمى مثال في علو وسمو الهمة، نجده جليا في سيرة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ المعروف عند علماء الحضارة والعمران أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس الأمة الشاهدة الهادية في أقل من ربع قرن، واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك، وجهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمله، وهمته العالية في بناء الأمة أمرٌ معروف، وهو مما تقاصر عنه أطماع أهل الهمّة العالية، وخيالاتهم، وما يتطلعون إليه. لكون جيل الصحابة الذي رباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عجنه بقيم الخشية وارجاء والمحبة، فجعل سائقهم الخشية وحداءهم الرجاء وركوبتهم محبة الله والشوق إليه وإلى جنته، فكانت هممهم وعزائمهم عالية سامية نفيسة علو وسمو ونفاسة المقام العالي والجنة، كانت عيون قلوبهم في قول مبصرهم صلى الله عليه وآله وسلم Sad

من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)..

كما استطاع الصدِّيق رضي الله عنه بهمته العالية وعزيمته القوية رغم بنيته الجسمية الضعيفة أن ينسج على نفس الهمة العالية، في أقلَّ من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت، هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين، وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم، ولكن همته العالية أبَتْ عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالاً..

وصاحب الهمّة العالية إخوتي، لا يرضى لنفسه دنايا الأمور بل يطمح دائمًا إلى ما هو أفضل وأحسن، فتجده يترفع عن مجالس اللغو وإضاعة الوقت، وينأى بنفسه عنها.

وقد أتحفنا ابن الجوزي في هذا المقام قائلاً Sad

قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان وتهيأوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدارَ البدارَ قبل الفوات، ونافسوا الزمان).

صاحب الهمّة العالية إخوتي،يُعتمد عليه، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه: وهذا أمر مشاهد معروف؛ فإن كل رؤساء ومدراء الجمعيات والمؤسسات يطمحون للعمل مع صاحب الهمّة العالية، ويطمئنون له، ويسعدون به، كيف لا وهو عوض عن فريق من العاملين، وكذلك صاحب الهمّة العالية في الدعوة يكون بمثابة فريق من الدعاة، ويرفع الله به الدعوة درجات، وقد قيل:"ذو الهمّة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا".

صاحب الهمّة العالية إخوتي، يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءة: وهذا هو مطمع الصالحين، ومراد العالمين، ومجال المتنافسين، وقد كان السلف رحمهم الله يضربون أعظم الأمثلة في هذا المجال.

والهمة العالية إخوتي، لا ينالها الواحد منا إلا بالمكابدة والمجاهدة وبذل أكثر من الممكن والوسع، فبدونها لا يتحقق شيء من المعالي،قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.. ولننظر لصاحب الهمة العالية الإمام عيسي بن موسى، إذ قال:"مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث".....

فالله الله إخوتي في هممنا وعزائمنا، الله الله في أنفسنا ومجتمعنا ودولتنا وأمتنا، أمتنا التي تريد أن تنهض وتقوم وتنطلق وتعود إلى مجدها إلى حال "الأمة الشاهدة" لتخرج من حالة "الأمة المشهود عليها"، وذلك لن يكون إلا بنا نحن، بكل واحد منا، نعم بكل واحد منا، ولكن ينبغي أن تكون عزيمته وهمته بهمة ألف سواه، بل مليون همة وعزيمة سواه، وهذا سيكون إن شاء الله عندما يكون سائقنا خشية الله والخوف من جلاله وناره، ومحفزنا رحمة الله والرجاء في جماله وجنته، وركوبتنا محبة الله وإشراق قلوبنا بنور كماله، حينها تصبو النفس لسلعة الله الغالية تصبو للجنة، فترتفع النفس وتترفع عن السفاسف، وتقوى العزيمة وتعلو الهمة لأن دونها الجنة ومهرها دفع ثمنها همة عالية سامية قوية خفاقة تواقة..

فاللهم ارفع وبارك هممنا وقوِّ عزائمنا وأخلص نياتنا وأصلح أعمالنا وسدد رأينا، وأَجْرِ الحكمة على ألسنتنا والخير على أيدينا، ونعوذ بك اللهم من العجز والكسل ومن الحَوْر بعد الكَوْر، واختم اللهم أعمالنا وأعمارنا بهمة عالية خالصة صالحة مصلحة وأنت عنا عاف راض..

وصل اللهم وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد الذي كان دائم حاله كأنما رُفع له علم فشمَّر له، وآله، والحمد لله رب العالمين.

الأستاذ: شفيق الإدريسي

اللهم ارفع وبارك هممنا وقوِّ عزائمنا وأخلص نياتنا وأصلح أعمالنا وسدد رأينا، اللهم امين Smile