عرفت العلوم في السنين الأخيرة تداخلا بين فروعها، وتشابكا بين معطياتها، بحيث أصبح لازما على كل متخصص في فن من الفنون أن يكون له اطلاع ولو يسير على باقي العلوم الأخرى، هذه الظاهرة التي قد يراها البعض ظاهرة حديثة مرتبطت بتطور العلوم وتقدمها هي في الحقيقة مسألة قديمة، وكمثال على ذلك هذا الحديث النبوي الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:\"مثل المومنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر، والحمى\"
فقد اشتمل هذا الحديث العظيم الفائدة على علمين هما: علم الحياة(البيولوجيا) وعلم الاجتماع( السوسويولوجيا)، كيف ذلك؟
يعرف الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي المجتمع بكونه ليس ركاما من الأفراد، ولكنه تنظيم وشبكة من العلاقات المترابطة فيما بينها، ويعطينا علم الأحياء البيولوجيا مثالا ممتازا لهذا الوضع؛ حيث تترابط مايزيد على مائة مليار خلية عصبية\"النورنات\" في الدماغ من خلال نسيج أو شبكة عصبية كثيفة، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط، بحيث يصبح الدماغ وحدة عمل مركزية واحدة منسقة ومبدعة، وكذلك هو النسيج الاجتماعي؛ شبكة من العلاقات التي تربط بين الأفراد، وبالتالي فوضع الشبكة ككل رهين بوضع الأفراد المشكلون لها قوة ونشاطا، أو ارتخاء وخمولا، كما أنهم قد يمزقونها إذا ما شد أحدهم الخيط بتوتر زائد.
والألماس اللامع الرائع، مكون من ذرات من الكربون الأسود المضغوط بشكل جبار، فما الذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة؟ إنه طبيعة التركيب الداخلي لذرات الكربون. والمجتمع بدوره هو طبيعة تراص خاصة بين أفراده، فإذا بقي ذرات كان أسود قبيحا، فإذا تراصت ذراته تحول إلى طاقة هائلة ولمعان عبر التاريخ، وفي الحديث:\"المومن للمومن كالبنيان يشد بعضه بعضا\"، وشبك بين أصابعه . وفي بعض الآثار \"كالبنيان المرصوص\"، بل قال الله تعالى:\"إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص\" ، فهذا التراص بين أفراد المجتمع هو الذي يجعل المجتمع متقدما مزدهرا.
إن الذي يسم المجتمع بالقوة أو الضعف، بالتفوق أو الانحطاط، إنما هو نوعية علاقة أفراده فيما بينهم.
ما الذي حول المجتمع العربي القديم من مجتمع مغلوب على أمره، يدفع الضرائب إلى الفرس والروم، إلى مجتمع يسيطر على الفرس والروم، وهم الذين يدفعون إليه الضرائب؟ ما الذي قلب هذه المعادلة؟ إنها طبيعة العلاقات الداخلية للمجتمع نفسه؛ فلما كانت العلاقات العربية العربية يسودها التوتر والنزاع، والعنف الداخلي، كان المجتمع في الحضيض الأسفل، ولما أصبحت هذه العلاقات الداخلية تسودها المحبة، والأخوة، والإيثار تحول المجتمع إلى قيادة العالم، وقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة بقوله:\"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قولبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا\" . لكن كيف تحول هذا المجتمع العربي الإسلامي الذي كان يقود العالم، إلى مجتمع ضعيف، متخلف مهزوم حضاريا؟
إن المجتمع-كما تقدم- مكون من شبكة من العلاقات تربط بين أفراده، ويبدأ مرض المجتمع بحدوث تغير سلبي في العلاقات الداخلية؛ حيث يتحول الأفراد إلى \"قوارض اجتماعية\" تلتهم الشبكة الاجتماعية، فينحدر المجتمع إلى الفناء. لكن كيف يحدث ذلك؟ ولماذا يتحول الأفراد من البناء إلى الهدم!!؟
يحدث ذلك كما في البيولوجيا؛ حيث تنحرف بعض الخلايا عن وظيفتها غير مهتمة بنظام الجسم، فإذا عجز الجسم عن مقاومتها تحولت إلى سرطان قاتل.
إن أول خلل يحدث للجسم عند الموت هو توقف الوظيفة، فيصبح ذلك الجسم المفعم بالحيوية والنشاط صورة وشكلا جامدا لايتحرك، ثم تبدأ بعد ذلك عملية فك علاقات الأنسجة، وتمزيق ارتباطات الخلايا، حتى يصبح الجسم متحللا إلى وحدات أولية. هذا ما يحدث للمجتمع بالضبط؛ فأول شيء يفقده المجتمع المريض هو\"الوظيفة\" بأن يتحول أفراده من النشاط والحيوية إلى العجز والكسل، وهذا سر استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل:\"اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل\" . ثم تلي هذه المرحلة، مرحلة تفكك الشكل؛ بأن تنحل العلاقات الاجتماعية، وتفقد ارتباطاتها، وتضمحل المعاني، والعقد التي تضمها من محبة وأخوة وإيثار.. ولهذا وجدنا الإسلام يعطي لهذه المعاني قداسة خاصة \"لايومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه\" .
وبعد مرحلة التفكك يستسلم المجتمع إلى الاندثار والزوال، ليصبح في نهاية الأمر كومة من البشر لا يجمعها رابط، ولا تضمها مثل عليا، ولا قيم ولا مبادئ؛ كل فرد يعيش لنفسه ولايهمه حتى جاره الذي بجنبه.
إنه وكما أن الجسد شبكة من الأعضاء المترابطة، ونسيج من الخلايا المتماسكة، كذلك هو المجتمع؛ مجموعة من العلاقات الودية والأخوية، يحس بعضه ببعض، ويشعر بعضه ببعض، كالجسد الواحد تماما، أما الجسد الميت فلا يحس ولا يشعر، ولو قطعته إربا إربا، والمجتمع الميت كذلك تماما لا يحس بجراحه، ولا يفطن لتقطيع أوصاله؛ المجتمع الحي هو مجتمع يشعر فيه أفراده بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، يدركون أنهم عنصر من عناصر هذا المجتمع، ولبنة في هذا البناء العظيم، يؤدون واجباتهم قبل أن يسألوا عن حقوقهم، يحبون لغيرهم ما يحبونه لأنفسهم، بل ويؤثرونهم على أنفسهم.،